تمبكتو
مدينة الذهب والأسرار

د.خالد حسن عبدالعزيز المصيلحعلى أطراف أفريقيا وبين رمالها الذهبية تنام تمبكتو منطوية على أسرارها وتاريخها العريق.

سارة بدير

تقع هذه المدينة الساحرة بماضيها السحيق غرب جمهورية مالي، وتحتل مركزًا استراتيجيًا يربط بين أهم أربعة طرق تجارية بأفريقيا. إلا أن هذا الموقع شكل نقمة عليها، إذ أصبحت مطمع المحتل. أما اليوم فهذه المدينة مهددة بالاندثار تحت رمالها، فلم تعد تحظى بالاهتمام سوى من سكانها ومتتبعي الآثار التاريخية الأوروبيين.

تاريخ مضطرب

قديمًا، كانت تمبكتو توازي مدينة فاس والقاهرة والأستانة «إسطنبول»، إلا أن المقولة التي تتردد في بلاد المغرب العربي كناية عن البعد «من هنا إلى تمبكتو» تعكس الحالة التي آلت إليها المدينة وكأنها معزولة عن العالم.
إن تمبكتو نقطة التقاء جمال الصحراء بزوارق النهر، وهي ميناء مهم لتداول السلع القادمة من غرب أفريقيا وشمال أفريقيا. ولقد اكتشفتها قبائل الطوارق في القرن الحادي عشر، وهم يجوبون الصحراء الكبرى بحثًا عن مراع لماشيتهم خلال فصول الجفاف، فعندما تجف الأنهار يبدأ الطوارق بحفر الآبار، وكانوا يتركون امرأة عجوزًا عند البئر لتحرس أمتعتهم. ومن هنا جاءت تسمية هذه المدينة، حيث إن كلمة «تم» بلغة الطوارق: تعني بئرًا، و«بكتو» اسم لتلك العجوز التي حرست البئر في اكتشافها الأول.
في القرن الحادي عشر الميلادي ازدهرت تمبكتو بالعلم والمتعلمين والعلماء الذين لاقوا تشجيعًا من حكامها، فكانت مقرًا لتجارة العلم، حيث كان هناك طلب متزايد على جلب الكتب منها، ما جعل تجارة الكتب المخطوطة تجارة رائجة.
في عام 1325 للميلاد عندما حكم الإمبراطور مانسا موسى تمبكتو جذب الاقتصاد المزدهر للمدينة، ولشغفه بالعمارة الإسلامية، أراد أن يضفي على المدينة ذلك الطابع، فأحضر مهندسًا معماريًا مصريًا يسمى أبو إسحاق السحيلي، ودفع له 200 كغم من الذهب ليبني مسجدًا خاصًّا بصلاة الجمعة وقصرًا ملكيًا، لم يبق منهما اليوم سوى أحجار الأساس.
وفي عام 1464 للميلاد قام حاكم إمبراطورية السونغاي سوني علي بير بالسيطرة على تمبكتو بغية توحيد الدول تحت اسم جمهورية إسلامية. رغم حرصه الشديد على الإسلام إلا أنه كان مولعًا بالتقاليد الأفريقية والتي من ضمنها الدين التقليدي الأفريقي، ما أثار حفيظة بعض علماء الدين. وقام بعزل العلماء عن المناصب وتعيين رجال لهم اطلاع واسع بالثقافة الأفريقية حتى يجعلوها تتغلل في جميع جوانب الحياة. هذه الطريقة في الحكم، ضيقت من حرية العلماء ودفعت بهم للهجرة إلى موريتانيا، وهذا ما يفسر وجود العديد من مخطوطات تومبكتو بها. لقد كان سوني حاكمًا قويًا استمر حكمه لمدة 28 عامًا خاض خلالها 32 حربًا، انتصر فيها جميعًا. قام بتطوير الجيش والزراعة وتقنيات الري، وفرض الضرائب. وعندما توفي في عام 1492 قبل اكتشاف أمريكا بقليل خلفه ابنه عسيكا الذي أعاد للعلماء مكانتهم وأغدق عليهم المال. وواصلت تمبكتو ازدهارها حتى احتلها المغاربة عام 1591بقيادة باشا محمد بن زرقان، وحرقوا المكتبات وقتلوا العلماء، وانتقلت العديد من المخطوطات للمغرب.
وفي عام 1893، ومع قدوم الاحتلال الفرنسي لغرب أفريقيا، بقيت تمبكتو تحت الحكم الفرنسي إلى أن نالت حريتها تبعًا لمالي في عام 1960، ولا تزال العديد من مخطوطات تمبكتو في متاحف فرنسا وجامعاتها.

الحرب للاستيلاء على المخطوطات
وفقًا لسكان تمبكتو، فإن الذهب يأتي من الجنوب، والملح من الشمال والدين من تمبكتو. في القرن الثاني عشر، أصبحت تمبكتو مركزًا لتعاليم الإسلام والعلوم المختلفة، حيث ضمت ثلاث جامعات و108 مدارس لتحفيظ القرآن. ومن هنا كان يطلق على تلك الحقبة العصر الذهبي لأفريقيا.
ازدهرت حركة التأليف والنسخ والطباعة والتصدير، وكان يوجد فيها 30 مكتبة خاصة تضم الكثير من الكتب، أصغرها تضم 1600 كتاب. ومن تتابع علماء المسلمين على تمبكتو في القرون الماضية، تجمع لديهم كم هائل من المخطوطات باللغة العربية تقارب المئة ألف مخطوطة بشتى العلوم، كالدين والطب والفلك والكيمياء. ينظر السكان إلى هذه المخطوطات على أنها منجم ألماس، ويقوم بعض الناس بشرائها بالذهب أو الجمال، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى بيع منازلهم. يُذكر أنه خلال الحروب التي تعرضت لها تومبكتو، دفن السكان المخطوطات تحت كل جدار، فعُثر على بعضها، وبعضها تلف من التخزين، وقسم آخر ما زال حيًا إلى اليوم يصل إلى 70.000 مخطوطة.

أطلانتس أفريقيا
ينظر بعض الرحالة إلى تمبكتو على أنها أطلانتس أفريقيا، وأطلانتس ترمز إلى جزيرة مفقودة يعتقد أنها كانت مكسوة بالذهب وتحمل شتى أشكال الحياة المثالية من أناس وحكام عادلين وعمران فريد.
من الطبيعي أن تحافظ المدن على بعض معالمها التاريخية، لكن أن تكون المدينة برمتها قائمة على هذه المعالم، فهذا ما يجعلها محط دهشة علماء الآثار. إن أول بناء عمراني بها كان على يد مصمم أفريقي من قرية ديجيني، ثم تبعه المهندسون المسلمون القادمون من شمال أفريقيا.
تحمل شوارع تمبكتو العديد من الأسرار التاريخية، من بينها ذاك المسجد الذي يأسر عيني القادم من جهة النهر والمبني على ضفافه. يجمع المسجد بين العمران الإسلامي والعمران الأفريقي، فخرج الناتج تحفة مذهلة. يبدو المسجد من الخارج ضيق المساحة لكنه عكس ذلك من الداخل، حيث يسع تسعة صفوف للصلاة، طول الواحد منها يبلغ 100 متر، وما زالت الصلاة ترفع به وحلقات القرآن والذكر تقام. كما يشعر المصلي بأن المسجد مكيف رغم حرارة الجو، إذ إن طريقة التصميم العمراني تمنع الحرارة من الدخول ويحافظ على درجة حرارة أولى ساعات الصباح الباكر المنعشة. كما تضم أحياؤها منزل أحد أهم علماء تمبكتو في القرن الخامس عشر، الشيخ محمد بن أبي بكر باغيوغو، والذي ما زال أحفاده لهم مكانة علمية في المدينة ويقطنون قرب منزله.

خطوات نحو غد جديد
يسعى أبناء تومبكتو رغم إمكاناتهم البسيطة وحياتهم البدائية لإحياء مكانتها، وكان لجهودهم صدى طيب. إذ أدرجت المدينة ضمن قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، وتعتزم شركات دولية عدة التشارك لإقامة مطار دولي يسهل الوصول إليها، عوضًا عن طريقي النهر والصحراء. كما أن الاهتمام لا يزال بالغًا بالمخطوطات وإحياء اللغة العربية، فنجد أن من لا يملك قوت يومه يخصص جانبًا من وقته لنسخ المخطوطات المهترئة حتى لا يتلفها الزمان.